نص كلمة الأمانة العامة للعتبة الكاظمية المقدسة في المراسم السنوية المهيبة لاستبدال الرايتين الشامختين للإمامين الكاظمين "عليهما السلام"


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، خالق الخلائق أجمعين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، حبيبنا وحبيب إله العالمين أبي القاسم محمد المصطفى وعلى آله الطاهرين، واللعنُ الدائمُ على أعدائهم من الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين.
السلامُ على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين، السلام على الإمامين الهمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد ورحمةُ الله وبركاته، والعزاء مرفوع إليهما في ذكرى استشهاد جدهما.
السلامُ عليكم حضورنا الكريم مع حفظ المقامات والألقاب ورحمة الله تعالى وبركاته.

هذي دماك على فمي تتكلمُ...... ماذا يقول الشعرُ إن نطق الدمُ

مع ارتفاع رايات الحزن والأسى، يتجدّد الحزن وتتجلّى الدروسُ والعبر وتصدحُ الكلماتُ التي كانت وما زالت متناغمةً مع رائحة دماء شهداء واقعة الطف العظيمة وهي تشع بنور الهداية والإيمان والتضحية والفداء، فيتجوّل الأدباء في رحاب الفكر، وتشرع الأقلام لتترجم صورَ الشعراء، ويخطُّ العلماءُ صفحاتِ المعرفةِ الوضّاءة، مستلهمين العِبرَ من تلك الواقعة المعطاء التي رفدت العالمَ بأروع ملاحمِ الشمم والإباء. ونحن إذ نستعد لإحياء الذكرى الخالدة نرفع رايات الحزن والأسى إيذاناً بإقامة العزاء على صاحب المصيبة الراتبة ومن استشهد معه على صعيد كربلاء.
وقد يسأل سائل: ما المبرِّر لإثارة وإحياء تلك الذكرى التي تحكي مأساةً قد مضى عليها حوالي أربعة عشر قرناً لتثير الأحزان وتقيم المآتم وكأن الحادثة وقعت الآن؟ فنقول: إن مسألةُ الرجوع إلى التأريخ واستعادة النقاط المضيئة فيه وإحياءها هو أمرٌ إنساني حضاري تحافظ عليه الشعوبُ والمجتمعات على اختلاف اتجاهاتها وثقافاتها، حيث نجد شعوبَ العالم تحتفل في كل سنة بذكريات قد تتصل بانتصار وطني أو قومي في معركة أو تضحية معينة قد يعود زمانها إلى مئات السنين، أو إحياء ذكرى مأساة قد تكون نتيجة صراع اجتماعي أو سياسي، وما الاحتفالاتُ بمناسبات الاستقلال الوطني التي تحييها الشعوب إلا شاهد ودليل على تجذّر هذا السلوك في الوجدان الإنساني العام.
ثم إن الحاضر بكل تفاصيله لا يعيش انفصالاً عن التأريخ، حيث نجد أن الإنسان الذي يحاول أن يؤكد نفسه ويؤصلَ مرحلته ويضع خطواته في الاتجاه الذي يبغيه في تقدمه ورُقيّه لا بد أن يستفيد من تاريخه وماضيه، فلا خلاف على وجود نقاط مضيئة في التأريخ تبقى ذخراً يستفاد منها في كل مرحلة من مراحل حياته التي قد يكون فيها نوع من الظلام، أو فيها درسٌ يرتبط بالحياة كلها، ولا يقف عند مرحلة معينة أو لأن هناك حاجةً إلى نوع من أنواع الإثارة التي لم يجد الإنسان عناصرَها الحيوية في الحاضر فيحاول أن يقتبسها من التأريخ، كل ذلك يجعل من التأريخ وإحيائه أمراً حيوياً ينطوي على فوائدَ كثيرة في حياة الإنسان، ولعل هذا الأمر هو الذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ). حيث تؤكد هذه الآية الكريمة على أن قيمة التأريخ هي قيمة العِبرة التي تفتح الحدث على الفكرة وترصد الثوابت التي لا تخضع في خصوصيتها لمدة زمنية معينة، بل تشملُ كلَّ خطوط الزمن لأنها قد تصبح خصوصيات الحياة كلها، وهذا الأمر الذي جعلنا نرتبط بالتأريخ وحوادثه ورجاله، وخصوصاً من كان في المواقع القيادية للإسلام بل إن الإسلام معقود بناصيتهم، فكان إسلاماً حقيقياً بصورته المثلى والعليا، فثورة الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه ليست حركة اللحظة أو الوقت الذي عاشوا فيه فحسب بل هي حركةُ الرسالة المتجسدة في خطواتهم الفكرية والروحية والعملية.
كما أن مسألة إحياء التاريخ هي مسألة تطل على الحاضر والمستقبل من خلال العبرة والموعظة والدرس، فهي ليست مسألةً غيرَ حضارية بل أنها تنبع من عمق الحضارة الإنسانية الهادفة التي تنطلق من الإشراق التربوي والأخلاقي والقيم السامية والمبادئ الحتمية، فالأمة التي لا تنفتح على تأريخها لا تعيش روحيةَ الامتداد في المستقبل. إذن من حقنا أن نحيي ونجدد ذكرى كربلاء ويوم عاشوراء ويوم سبي تلك الحرم المثكولة فإنها أيام تحمل كل معاني الحياة وتضم بطياتها رموز الإنسانية والحب والوفاء والأخاء والإيثار والتضحية والفداء والأبوة والصحبة والمرأة المناضلة الصابرة والطفل، إذن فليتجدد حُزنُنا على كل ما حدث في كربلاء. المعزون الأفاضل ...
لم يمت الحسين (عليه السلام) لأنه كان شهيداً، والشهيد حيٌ مرزوق عند ربه، ولم يمت الحسين (عليه السلام) لأنه كان مثلاً أعلى، والمثل حي يضئ مع العدل ويخبو مع الظلم، ولم يمت الحسين (عليه السلام) لأنه كان فكرة، ومِن طَبعِ الفكرة السمو فلا ينالها أحد، وتسمو بعد رحيل صاحبها فتنتقل من روحه إلى روح أمته، وروح الفرد وروح الأمة من أمر ربي باقية في بقائه، خالدة في خلوده، ولم يمت الحسين (عليه السلام) لأنه لم يطلب الدنيا وإنما خرج بعقيدته التي هي سر أبيه ووديعة جده.
سيبقى يوم الحسين (عليه السلام) خالدا إلى ما شاء الله من أيام الدهر، حديث الأجيال للأجيال، ورسالة البسالة للأبطال، تنير الطريق لرسل الإصلاح في العالم عن مسلك النهوض وكيفية الصمود، ما جعلها جديرة بالتمجيد، حَريّة بالخلود.

قال الشاعر:
فيا ربيبَ الهدى يا نورَ موكبه..... يا مَن لعينِ رسولِ الله إنسانُ
إن كان للمجدِ عنوانٌ فأنت له.... مهما تباينتِ الأمجادُ عنوانُ
لله سِفرُ فخارٍ أنت كاتبُه.... ما خطّه من بُناةِ الفخرِ إنسانُ

وقال آخر:
فلله يومٌ كلما طالَ عهدُه .... أفاضَ على الحقِ الجلالةَ والقدرا
وكم امةٌ عاشت بذكرى هداتها.... إذا ما دهاها الخطبُ تنقذُها الذكرى

كان أهل بيت الرحمة (عليه السلام) عندما يهل شهر محرم الحرام، يبدأ حزنُهم (عليه السلام)، فقد روي أنه قيل للإمام الصادق (عليه السلام): سيدي جُعلت فداك: إن الميت يجلسون له بالنياحة بعد موته أو قتله، وأراكم تجلسون أنتم وشيعتكم من أول الشهر بالمأتم والعزاء على الحسين (عليه السلام)، فقال (عليه السلام): يا هذا إذا هلَّ هلالُ محرم نشرت الملائكةُ ثوبَ الحسين (عليه السلام) وهو مخرّق من ضرب السيوف، وملطّخ بالدماء فنراه نحن وشيعتُنا بالبصيرة لا بالبصر، فتنفجر دموعُنا. وكذلك لم تَرَ لهم ثغراً يضحك حتى تمضي منه عشرة أيام فإذا كان اليوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبتهم وحزنهم وبكائهم، وكانوا يقولون: هذا اليوم الذي قتل فيه الحسين (عليه السلام)، ويشارك خدم الإمامين الجوادين عليهما السلام أئمتهم بإظهار الحزنِ والاجتماع لإقامة المآتم على سبط النبي الأعظم والبكاء عليه وندبه فهذا هلالُ محرم قد هلَّ. كما إننا لا نجددُ العزاءَ فحسب، بل نتخذ من منهجه سبيلا يُحتذى به في الورع والتقوى والصلاح.
أيها المؤمنون المعزون..إن من صور إحياء هذه الذكرى واستنباط العبر وشحذ الهمم صدور فتوى الجهاد الكفائي وتصدي الموالين لمقارعة الباطل وكأنهم يرددون مقولة الإمام الحسين (عليه السلام): ( والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا اقر لكم إقرار العبيد) فنراهم يهرعون للدفاع عن المقدسات والأرض والعرض يتقدمهم النداء الخالد ( هيهات منا الذلة). هكذا كان الإمام الحسين (عليه السلام)، وهكذا هي مدرسته تنبض بعطاء لا ينضب ودروس لا تنفد، فأعظم الله لكم الأجر وأحسن لكم العزاء وانتم تستعدون لإقامة المآتم التي تحييها تلك الحرارةُ التي سكنت قلوبَكم والتي لا تبرد إلى يوم القيامة، وقد جاء في زيارةٍ مأثورة لأبي عبد الله الحسين عليه السلام: ” صَلَّى‏ اللَّهُ‏ عَلَيْكَ‏ عَدَدَ مَا فِي عِلْمِ اللَّهِ لَبَّيْكَ دَاعِيَ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَمْ يُجِبْكَ بَدَنِي عِنْدَ اسْتِغَاثَتِكَ وَلِسَانِي عِنْدَ اسْتِنْصَارِكَ فَقَدْ أَجَابَكَ قَلْبِي وَسَمْعِي وَبَصَرِي‏ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا أَشْهَدُ أَنَّكَ طُهْرٌ طَاهِرٌ مُطَهَّرٌ مِنْ طُهْرٍ طَاهِرٍ مُطَهَّرٍ طَهُرتَ وطَهُرَتْ بِكَ الْبِلَادُ وَطَهُرَتْ أَرْضٌ أَنْتَ فِيهَا وَطَهُرَ حَرَمُكَ أَشْهَدُ أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ وَدَعَوْتَ إِلَيْهِمَا وَأَنَّكَ صَادِقٌ صِدِّيقٌ صَدَقْتَ فِيمَا دَعَوْتَ إِلَيْه‏”.
أتوجه بالشكر والثناء إليكم حضورنا الأفاضل على تشريفكم بالحضور وإلى خدمَ الإمامين الجوادين (عليهما السلام) الذين أقاموا هذا الحفل، ومن هذا المكان المقدّس ندعو اللهَ سبحانه أن يرحمَ العبادَ والبلاد، ويُتم الانتصارات على أعدائنا، ويرحمَ الشهداءَ السعداء ويُعين أهليهم على ما هم فيه، ويمنَّ على الجرحى والمرضى بالشفاءِ العاجل، ويردَّ النازحين إلى مساكنِهم، ويعمَّ بلدَنا الأمنِ والأمانِ إنه سميعٌ مجيبٌ، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلّى اللهُ على محمدٍ وآلِ محمدٍ الطيبين الطاهرين.