الوجه.. والوجه الآخر..

Image

هل سأل أحدنا نفسه يوماً عن وجهه الآخر، هل هو ضرورة اجتماعية وحاجة حتمية للتعايش ؟ هل هو النفاق .. أم ماذا ؟ أم أن الوجه الآخر بمعناه الحقيقي هو موضة لبس الأقنعة التي غالباً ما يتوارثها الأبناء عن الآباء؟ ثم كيف يتسنى لأحدنا أن يتعرف على وجهه الحقيقي وهو يتخفى وراء الكثير من الأقنعة ؟ الحكمة التي تقول (اعرف نفسك) لا أجدها تؤدي الغرض في حديثنا هذا ، فمن يعرف نفسه يعرف ربّه فيما لو كانت تلك النفس الناصعة التي خلقها الله على الفطرة السليمة ، أما أين تكمن هذه النفس التي تتخفى وراء وجوهنا المتعددة ؟ هو ما يجعل التعرف عليها أمراً عسيراً، وإن كان ممكناً ، إلا أنه ليس بالهين، ولعل الحكمة التي تقول (اعرف عدوّك تنتصر عليه) هي ما نصبوا إليه مادمنا بصدد الحديث عن (الوجه والوجه الآخر)، ولو سأل أحدنا نفسه عن أعدى أعدائه لما وجد جواباً أفضل من قول النبيّ الـأكرم(ص): (أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك)، فنفسك التي تخاتلك بالخطيئة وتتربص بك الدوائر أشدُّ فتكاً عليك من عدوّك الذي تراه أمامك فهي أشبه بما يوصف ( حرامي البيت)، وكما أنّ أعداء الأوطان في الداخل أشدّ فتكاً وخطراً عليها من أعدائها في الخارج،كذاك النفس الأمارة بالسوء أخطر على صاحبها من أي شيءٍ آخر إلا أن تداركه رحمة الله تعالى، كما يقول سبحانه(وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ..) ، وقد شبّه أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) النفس الأمارة بالسوء بالفرس الحرون ويصف المؤمن الذي يكبحها بأنَّه:( ( إمرءاً زمَّ نفسه من التقوى بزمام، وألجمها من خشية ربها بلجام، فقادها إلى الطاعة بزمامها، وقدعها عن المعصية بلجامها)، وهنالك النفس اللوامة التي يقسم بها تعالى بقوله: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) التي تلوم صاحبها الذي ينأى بها عن فعل الخير، والوصف القرآني لأسمى نمطٍ من أنماط النفس الإنسانية فيرتقي بها إلى أعلى درجات الرفعة والنقاء والطمأنينة بقوله سبحانه :( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) ، وهذا ما لا يبلغها إلا الصفوة الصفوة من خلق الله تعالى. من كل هذا يتضح جلياً أنّ للنفس الإنسانية مزايا وخفايا متعددة لا يعلم ماهيتها إلا الله (جلّت قدرته)، غير أنها وإن تعددت أو تفاوتت درجاتها، خُلقت أول ما خلقت – يقيناً- على أفضل حال من النقاء والصفاء، وحينما سكبها ربُّها في أوعية القلوب وتعلّقت بنياطها، ران على تلك القلوب من المعاصي والآثام ما حجب لمعانها فاعتمَّت هذه النفوس بظُلمتها، واسودَّت بخطاياها،قال تعالى (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) . لا يخفى ما تشكله النفوس المعتمة التي تركن خلف الوجوه المقنعة من انعكاسات سيئة على المجتمع وتؤدي به وبصاحبها إلى أضرارٍ بالغةٍ، وأهونها نزع روح الثقة والمودة بينه وبين الناس وتؤجج في الصدور دوافع الحقد بدلاً عن لغة الحب والتفاهم، ولا يمكن للمجتمع الذي تكثر فيه أمثال هذه النفوس أن يتآلف أو أن يكون مستقراً، ولا يعرف أهله الاطمئنان فأزمة الثقة تُعدُّ من الكوارث الاجتماعية التي يفرزها النفاق الاجتماعي، فالنفاق بمعناه الحقيقي إظهار المرء خلاف ما يبطن، وتلون المتلونين هو آفةٌ حقيقيةٌ جَرَّت على مجتمعاتنا الكثير من الويلات، هذا النمط السلبي الذي ينهش في جسد المجتمع الإنساني أخذ حيزاً كبيراً من التوبيخ والذم القرآني لهذه الشريحة المجتمعية المفسدة، واعتبرها وبالاً على الأمة وخطراً داخلياً محدقاً بها، واضعاً هذا النوع من النفوس المريضة خارج دائرة الإيمان، يقول تعالى محذراً رسوله(صلى الله عليه وآله) منهم :( إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) ، وأعطى للأمة ونبيها ملامح تكون دليلاً إلى معرفتهم بقوله تعالى:( وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) ، كما يبرع الوصف القرآني في شنه الحرب النفسية على أعداء الله ورسوله من المنافقين فاضحاً ما يعتلج في صدورهم من القلق النفسي ومتوعداً إياهم بالخزي والافتضاح بقوله سبحانه (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ) ، فالمنافق المتلون يعاني حالة التشرذم والصراع النفسي والعزلة عن الآخرين، مع التشظي والشعور الدائم بالنقص، ويضطره إظهاره خلاف ما يبطن إلى الكذب دائماً، وإخلاف الوعد، وخيانته للأمانة، وحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما أورداه مسلم والبخاري يؤكد في المنافق هذه السمات، (آية المنافق ثلاث ، إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، وكون أنّ الإمام عليٍّ (عليه السلام) كان يرفع لواء الحق بيمينه ومعه كل الصفات الحقيقية للمسلم، فقد جعل أعداءه من المنافقين يتخندقون أمامه في خندق الباطل، ما حدا برسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يجعل ممن يبغض من يدور معه الحق حيثما دار وهو عليٌّ (عليه السلام) صفةً دالةً على المنافقين بقوله لعليٍّ (عليه السلام):( لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) ، وكما كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) فقد حذّر أمير المؤمنين (عليه السلام)، من مغبِّة النفاق الذي ينهش في كيان الأمة المسلمة في ماضيها وحاضرها قائلاً:(هيهات لا يُخدع الله عن جنته ولا تُنال مرضاته إلا بطاعته لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له ، والناهين عن المنكر العاملين به ذلك التلون والنفاق) ، ويا كثر ما نعانيه في واقعنا المعاصر من أمثال هؤلاء ومن يقف ويتخندق معهم – وللأسف - بدافع المجاملة والمجاراة التي تكون على حساب الحق مما تسبب في انمحاق البركة وزوالها ، في الوقت الذي ينبغي فيه تعرية أمثال هؤلاء واستحقارهم، وتركهم في عزلةٍ تامةٍ، ولم يكن أئمتنا (عليهم السلام) ليتركوا التصدي للمنافقين وذمهم، فلا مكان للمتلونين والمنافقين عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام) والمخلصين من أتباعهم، فنقل عن الإمام الكاظم (عليه السلام) قوله :( ياهشام بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين..) .

Avatar

بقلم

عامر عزيز الأنبا ري

مستوى التفاعل