مهنة النسيج .. ثروة ضائعة في طي الاهمال والنسيان

Image

 

تتمتع مدينة الكاظمية المقدسة بمؤهلات كثيرة كونها مركزاً دينياً وتاريخياً وسياحياً واقتصادياً وتجارياً مما جعلها تتميز بكثيرٍ من الصناعات والحرف والمهن الشعبية التي توارثها الكاظميون فأضحت مصدر عيش لهم عبر سنوات طويلة، وقد ارتبطت تلك المهن والحرف بتاريخ المدينة المقدسة، ومن بينها مهنة الصياغة والدباغة والنسيج وأصبحت من خصائصها وسماتها البارزة بل وجزءاً من تراثها الشعبي العريق المعبر عن عمق وأصالة هذا المجتمع، حيث كانت هذه الصناعات الحرفية محط فخر واعتزاز وأخذت منتجاتها صدى واسع بين المجتمع العراقي. 

إذ نسلط الضوء أحدى هذه المهن ألا وهي مهنة النسيج التي بدأت في البيوتات والمحلات الصغيرة وتدرجت في سلم التطور إلى معامل حتى ازدهرت واتسعت ولكنّها أوشكت اليوم على الانقراض، والتعرف أهم الشخصيات والبيوتات التي عملت بهذه المهنة وتطورها الزمني وآلتها ومتطلباتها حيث تحدث لموقع العتبة الكاظمية المقدسة أحد رواد هذه المهنة السيد علي حسين السعدي قائلاً: عرفت مدينة الكاظمية المقدسة بعراقتها في صناعة النسيج وحياكة القماش،

وكانت في بدايات الأمر تستخدم آلة تسمى (الجومة أو الجومي) وهي عبارة عن إطار من الخشب بشكلين، مربع ومستطيل، وتثبت فيها مسامير حديدية على جوانبها الأربعة، يفصل بين كل منها سنتيمتران لتثبيت الخيوط عليها، وتتكون بقية أجزاء من: (الدفة، الجنح، النول، المنكوك، الميزان، المداويس، البزاز، النبوبة، الگلب، الأكتاف، أزرار، وبكرة..)، ويعتمدون في هذه الصناعة على المواد الأولية المحلية من الصوف والشعر والقطن، حيث يتم غسل النسيج وغزله وبرمه بواسطة (المبرم) وكذلك صبغه بألوان عديدة كي تعطينا شكلاً جميلاً ثم يتم بعد ذلك نسج الخيوط بواسطة آلة تابعة للجومة تسمى (شكام) والثاني (بازاري) الذي يعدّ أفضل من النوع الأول، فكان ينتج فيها العباءة النسائية والرجالية والشيلة أوما تسمى "بالفوطة" واليشماغ الذي سمي سابقاً "بالكوفية"، فبالرغم من دخول الآلات إلاّ أن مختصي ومحبي هذه الصناعة ظلوا محافظين عليها رغم بساطتها، أما في عشرينيات القرن العشرين وبعد التطور في كل مناحي الحياة بدأت المكائن الحديثة بالدخول في هذا المجال وأخذت مدينة الكاظمية المقدسة مكانتها فيها والمركز الأول في صناعة النسيج حيث افتتح مصنعان كبيران في هذه المدينة وأصبحَا في حينها النواة الأولى للصناعة العراقية الأول هو (معمل فتاح باشا للغزل والنسيج) الذي أسسه نوري فتاح باشا عام 1926م في أحد بساتين الكاظمية واستورد حينها مكائن ومعدات مستعملة ألمانية الصنع فتميز بانتاجه للأقمشة والمنسوجات الصوفية الفاخرة، والأخر كان يسمى بمعمل (الوصي) نسبة إلى الوصي على عرش العراق من العهد الملكي وهو (عبد الإله)، بعدها تم تبديل اسم المعمل إلى (المعمل الجمهوري) وحالياً أحدى مؤسسات الشركة العامة للنسيج القطني، حيث ينتج أفضل المنتوجات القطينة ومعمل صالح أفندي في منطقة الهبنة. 

وتحدث الحاج محي جبال الفتال أحد أبناء أسرة آل الفتال العريقة عن تاريخ صناعات النسيجية قائلاً: مازلت احتفظ بآلة النسيج القديمة في بيتي التي كان يمارس عليها والدي الحاج جبار الفتال صناعة بعض المنسوجات، وبالرغم ممّا نراه  اليوم من تصارع التكنلوجيا إلا أنني استطعت أن أحافظ على تراث آبائي وأجدادي من الاندثار والانقراض والضياع، وأذكر لكم أغلب العوائل التي اشتهرت بهذه المهنة وهي: عائلة آل عطرة، وعائلة الدهوي، وعائلة الكيار، وعائلة الحاج علي الملا، وآل سعيد، والحاج رضا دباش، ومن الشخصيات المرحوم الحاج معتوك النيّار الأدريسي والحاج حميد عبادة والحاج محمد عيسى الجوخجي، والحاج ابراهيم هسة، والحاج مهدي حسان، والاسطة جبار الدبيسي، وصاحب الواني، والحاج أموري بلال، والحاج حسين الوحيّد، غني شيخ حسين، والحاج حمزة غريب، والاسطة صبري، الحاج جليل شندي، الحاج أموري الهوكة، والحاج ابراهيم عبد علو، واسطة جودي، وحجي راضي وغيرهم، لكنها ورغم ذلك نراها اليوم تصارع التكنولوجيا من أجل الحفاظ على قيمتها التأريخية.

ويقول السيد قاسم صاحب الوردي صاحب معمل نسيج قائلاً: في ظل الانفتاح الاقتصادي العراقي على العالم ودخول بضائع حديثة مستوردة من مناشئ متعددة إلى السوق العراقية بلا محاسبة ورقيب، فضلاً عن انعدام الدعم الحكومي لأصحاب الحرف والقطاع الخاص، أدى كلّ ذلك إلى زيادة معاناة أصحاب المعامل وتسبَّب باختفاء صناعة النسيج وإندثارها وغلاق أبواب تلك المعامل وتسريح عمالها بل وأصبحت تلك المكائن والمعدات عبارة عن أكوام من الحديد "الخردة"، ومن خلال منبركم الإعلامي الكريم نوجه دعوة الجهات المسؤولة  لحماية الصناعات والمنتجات العراقية من خلال دعم أصحاب المعامل في إعادة تأهيلها وتشجيعهم من خلال الإطفاء الضريبي على استيراد المواد الأولية والغزول والمكائن الحديثة والمعدات وإدخال التقنيات الحديثة في عمليات التسويق والانتاج، وتوفير الطاقة الكهربائية لتلك المعامل بشكل مستمر، وإقامة دورات للعمال لأجل تطوير خبراتهم وطاقاتهم ليتسنى لهم العمل على المكائن والأجهزة الحديثة، توفير مدن صناعية جديدة كل هذه الأمور تساهم في نهوض تطوير الصناعات النسيجية.

وأفاد الحاج ورد محمد الغبان أحد المتخصصين بصناعة النسيج قائلاً: تدعو الضرورة للاتجاه إلى تطوير القطاع الخاص، وتشجيع صناعة النسيج في ظل هذه الظروف التي يمر بها بلدنا العراق، لأنها تساهم في توفير فرص عمل لكثير من الشباب وتقليل نسب البطالة، وستكون هناك فرصة لأصحاب المعامل يحقق من خلالها التنافس في انتاج الأفضل والأجود وانتعاش السوق العراقية بتنوع المنسوجات، كل هذه الجهود تصب في انتعاش هذه الصناعات، بل وتحقق مردودات مالية كبيرة تصب في زيادة الدخل القومي للبلاد. 

ويشير السيد علي الحاج صعب أحد أصحاب محال بيع القماش أن منتجات النسيج العراقي أصبحت بضاعة كاسدة لا يرغب أحد بشرائها إلا فئة محدودة، ونعزو أسباب تردي الإقبال عليها من قبل الزبائن إلى ارتفاع أسعارها نسبياً قياساً مع المستورد، وغلاء أثمان المواد الأولية الداخلة في صناعة المنتج المحلي، فضلاً عن عدم وجود التنوع والتجديد والحداثة مما سبب الردائة بالمنتوج فضلاً عن المنافسة الشديدة للمنتجات المستوردة وأقصد القماش والعباءة والملابس الجاهزة حيث أغلب ما توفره الأسواق قد يتناسب مع الذوق العام للمستهلك، بل يفضل البعض في أغلب الأحيان السلع التي تجمع بين رخص الثمن وجَودَة مقبولة إلى حد ما.

وللخروج من هذه الآفة التي ضربت صناعة الغزل والنسيج في العراق وتُحتم الضرورة السعي إلى وضع خطة إصلاح شاملة لتطوير ودعم هذا القطاع الحيوي والمهم، من خلال تكثيف الجهود وتضافرها لتحسين الانتاج بما يتناسب مع متطلبات السوق العراقية، بالبحث عن مناشئ عالمية جديدة لاستيراد الغزول، وتوفير الرعاية والضمان الصحي والبيئة المناسبة للعمال في هذا القطاع، والتخطيط لإنشاء مدن صناعية مناسبة،  وضرورة تشريع قوانين رقابية مثل قانون حماية المنتج الوطني، وقانون حماية المستهلك، ومعالجة التعرفة الكمركية التي أثرت سلبا على هذه الصناعة لننهض ونرتقي بقطاع صناعة النسيج من جديد.